في منطقة نائية، ظهر فجأة في سوق أسبوعي شخص غريب رفقة ابنه.. سرقا الأنظار بحلتيهما البهيتين أثناء تجوالهما.. حيث ما مرا، كانت منهما تفوح رائحة الخزامى.. لم تكن بادية عليهما وعثاء السفر، كأنهما نزلا من السماء.. وفي الوقت الذي كان فيه الأب هادئا، كان الاضطراب باديا على الابن الصغير، المحتمي بوالده والماسك بتلابيبه.. كان الناس يفسحون لهما الطريق.. وحين دخلا إحدى المقاهي الشعبية، فرّش لهما صاحبها الفُرُشَ وبسط أمامهما السُفْرَةَ وجاءهما بالشواء والشاي.. لم تمتد أيديهما إلى الطعام.. ولم يكلما أحدا..
تحلق الناس حولهما، مبهورين بطلعتهما البهية.. كل من كان قد رآهما، يترك ما بيده من أمور التجارة والصناعة، ويتبعهما مسحورا، حتى تعطل السوق نهائيا.. وسكت الباعة عن الصياح.. فقط ، كانت الحمير تنهق بقوة نهيقا غير عاد، وتعضّ وترفس كل من اقترب منها، حيوانا كان أو إنسانا..
في غمرة هذا الاحتفال غير المعلن، نطـّت من وسط القوم عجوز، واتجهت مباشرة إلى القاعدين أمام الجموع.. حين رآها الشخص قفز من مكانه وقـبـّل رأسها وأجلسها قربه.. وبإشارة من يده، أمر القوم بالانصراف، فانصرفوا.. ودار حديث خافت بين الاثنين.. وحتى أولائك الذين كانوا وراء الخيمة يسترقون السمع، لم يسمعوا شيئا.. سمعوا وشوشات امتدّت إلى الزوال.. إلى وقت انفضاض سوق البادية ذاك..
خرجت العجوز من الخيمة، وفي أثرها الشخص وابنه.. وشقـّوا الطريق الجنوبي عكس الطريق الشمالي الذي يأتي منه "السوّاقة"، وأعين الناس مشدودة إليهم حتى اختفوا وراء التل.. انتبه الباعة إلى أنفسهم وتجارتهم، فوجدوا أن الحيوانات أكلت الخضار والفواكه واللحوم وأتلفت بقية السلع الأخرى في غفلتهم الطويلة تلك..
لمّا عاد"السوّاقة" إلى دواويرهم، كان كل سمرهم يدور حول ما وقع يوم السوق، حول الشخص الصافي البشرة، الأزرق العينين، الأحمر الوجنتين، الفاحم الشعر، وابنه الصغير الذي كان صورة مصغرة منه.. قال أحد القرويين:
-"عطسه من منخاره"..
ومن يوم السوق ذاك، أصبحت للعجوز قيمة عند أهل الدواوير.. فهي من قام إليها القادم الغريب وقبـّل رأسها وجالسها ساعات عدة.. لعلها أخذت من بركته وامتلأت بسره، فما أسعدها وأسعد الدواوير بها !!.
كان القوم يولِمونَ، ويصرّون عليها في الحضور، ويرجونها أن تحدثهم عن الغريب، فكانت ترفض..
**********
كان قد ساد بين أبناء الدواوير وفاق تام حول الماء والعشب.. وسادت في المنطقة فترة جميلة من السلم والأمن.. أعقبها ازدهار في الحرف والتجارة والفلاحة أغاض ذلك الشخص، فقام بتلك الرحلة، وكانت قد سقطت من يده كل الحيل للإيقاع بالقوم والعودة بهم إلى التطاحن، فما كان منه إلا المجيء إلى السوق في تلك الصورة البهية، والالتقاء بتلك العجوز دون غيرها.. كان يعلم بذلك الغّل الذي تحمله لسكان الدواوير بعد مقتل زوجها وأولادها الثلاثة في معركة مجنونة.. امتدت من صباح يوم مشئوم حتى ليله.. سالت فيها دماء غزيرة.
قبل يوم السوق، كان الشخص قد زارها ليلا في خربتها، وطرح عليها أمر إعادة القوم إلى سالف عهدهم من التطاحن والخسران.. وجدت في طلبه غاية انتقامها، وأقسمت له بأغلظ الأيمان أن تكون عند حسن ظنه بها، لكن بشرط أن يعيد لها اعتبارها بين القوم.. وذلك ما فعل يوم السوق..
سألها كالأبله كيف ستنفذ الأمر.. نهرته بشدّة قائلة:
-" شوفْ واسكتْ !!"
ردّ بخضوع:
- سمعا وطاعة يا أمي.
مرت العجوز إلى مرحلة التنفيذ.. واختارت لذلك، زوجة أحد أبناء الأعيان.. زارتها في منزلها، وطلبت منها أن تصنع لها "كسكسا" بالحمص والزبيب، ففعلت المرأة فرحة بهذا التشريف.. وقبل تناول الطعام، طلبت العجوز منها أن تأتيها بملعقتين.. وبدأت تأكل بهما من موضعين متباعدين في الصحن أمام استغراب المرأة.. دخل الزوج وسلم على العجوز ورحب بها..
ضيقت العجوز من عينيها العمشاوين ورفعتهما إلى الزوج سائلة زوجته:
- أهذا الذي كان يأكل معنا قبل قليل؟!
**********
تحولت إجابة السؤال إلى ما كان يبتغيه الشخص الغريب.. سالت دماء غزيرة بين الأحلاف، وعاد التطاحن..
رقص الشخص الغريب، وأمر ابنه بالرقص.. ومن فرحه، أهدى للعجوز منديلا من الحرير الخالص.. طرق بابها، وتراجع عدة خطوات، ومدّه إليها الهدية بعد أن عقدها في طرف قصبة طويلة.. ضحكت العجوز ملأ شدقيها، وسألته سؤالا استنكاريا:
-أتهدى الهدايا بهذه الطريقة؟
ردّ باسما:
- الاحتراس واجب.
- الاحتراس من ماذا؟!
- من القـُمْقُم..